ذهان سارة

  • تاريخ النشر: الأربعاء، 10 نوفمبر 2021 آخر تحديث: الأربعاء، 24 نوفمبر 2021
ذهان سارة

بقلم-ماجدة الصباح

عزيزي القارئ: أود أن أحيطك علماً بأن ما ستقرأه أدناه
هو تجربة سارة الخاصة وتفاصيل رحلتها مع الذهان حسب رأيها الشخصي.
إذا أردت الحصول على معلومات طبية فيما يخص الذهان راجع طبيب مختص أو توجه للمواقع الطبية المعتمدة.

انا سارة، مهندسة معمارية، زوجة لأب محب، وأم لإبنتان جميلتان. مررت بثلاث نوبات ذهان، أعلم أن بعض منكم لا يعرف معنى هذه الكلمة، ومنكم من يحسبها مرادفة لكلمة "جنون"، ومنكم من يعرف فقط أنها نوع من أنواع الاضطرابات النفسية.
أوجه رسالتي هذه خصيصاً لمن أصابهم فعلاً، سواءً تم تشخيصهم أو من مازالوا عالقون في مرحلة الضياع ولم يتم تشخيصهم بعد، أوجهها للأهل والأقرباء الذين يعانون من الحيرة وعدم القدرة على مساعدة من يحبون، أوجهها لكل إنسان يرى أنه عضو مسؤول يود أن يتعرف على كل الاضطرابات النفسية ليمد يد المساعدة لأي فرد من أفراد مجتمعه.
اليكم تفاصيل رحلتي مع الذهان..
استطيع أن أفسره على أنه فقدان الاتصال بالواقع. فعند مروري بنوباته أجزم أن ما أسمعه وأراه وأشعر به حقيقة.

ولا يمكن للشخص الطبيعي أن يسميه كذلك. أحب أن أطلق عليه مسمى "الحقيقة البديلة" قد يبدو هذا جنونياً بعض الشيء، ولكنني حرفياً أشعر بأنه حقيقتي البديلة فهو تلك اللحظة المثالية الواقعية بالنسبة لي.
حسناً، دعوني أبسط لكم ما أعني وأذكر لكم المراحل التي مررت بها أثناء تلك النوبات وجوانبها المختلفة.

إحداها كانت اعتقادي بأنني أستطيع تأليف كتاب والذي بالطبع لم يكن كتاباً حقاً بل كان أوراقاً متراكمة وكلماتٍ مبعثرة ليس لها معنى.

أما الأخرى فكانت اعتقادي أن باستطاعتي سماع أصوات كائنات أخرى أتت الى الأرض لتنقذ البشرية، انغمست في هذا الاعتقاد الى ان توهمت أنه اصبح بمقدوري رؤيتهم ورؤية الرسائل التي يبعثونها إلي محلقةً بالآفاق، كنت أؤمن في تلك اللحظة أن بإمكاني تغيير العالم.
طوال فترة ذهاني الأول والتي استمرت ثلاثة شهور  كان لدي شيئاً من البصيرة.  كنت أعلم أنني كنت كالمنتشية، وما أعانيه كان ذهانياً، ويمكنني وصفه "بالجنون" ، لكنني كنت أستمتع به كثيراً، شعرت بأنه حقيقي، غرقت بهذا الاحساس كثيراً وشعرت بالنشوة، لذلك اتخذت قراراً بالاعتقاد به، كان ملموساً! وكان جزء مني يقول "انتظري قليلاً، قد لا يكون هذا صحيحاً" لكنني تجاهلت هذا الجزء وانغمست بالاستمتاع به.

وبعدها تأتي عناصر من هذا الذهان تجعلني افقد الاتصال بالواقع، لقد اعتقدت بصدق أن الأشياء التي يمكنني رؤيتها الآن صحيحة وهي لم تكن كذلك بالمرة! لكن في أغلب الأحيان أقرر تجاهلها والاستمرار في ما اعتقدت أنه صحيح وذلك لأنه يشعرني بالرضا التام.
في تلك الأشهر الثلاثة، مررت بتجارب مختلفة من الذهان. منها رؤية صورة لي على الانستقرام تخرج من هاتفي وتتحول الى مخلوق خارق يمكنه تغيير البشرية.

كنت أعرف تمام المعرفة ما كتبته في السابق أسفل الصورة ولكن هواجسي خدعتني وجعلتني على يقين تام بأن رسالتي كمخلوق مهمته تغيير البشرية كانت مكتوبة بدلاً منها.
في هذه الفترة لم يكن لدي نمط حياة عادي على الاطلاق. لم أنم إطلاقاً، فلم أكن أشعر انني بحاجة الى النوم، كنت استمتع بالكتابة والدردشة على وسائل التواصل الاجتماعي طوال الأيام والليالي، كنت أكتب كثيراً، كنت اشاهد مقاطع على YouTube مع اعتقادي التام انها موجهة خصيصاً لي.
بدأ الأهل والأصدقاء بالقلق بعد أسبوع من بداية الذهان، بعد أن قاموا بملاحظة التغييرات التي بدت على كلامي وتصرفاتي.

وما ان أرسلت كتابي عبر الإيميل الى صديقتي المقربة إلا أن قامت أمي في اليوم التالي بطرق باب غرفتي ومعها أخي وصديقتي، " عليك ان تأتي معنا الآن"
لم يكن لدي أي خيار، ذهبت معهم لمستشفى الأمراض النفسية شعرت وقتها بالخوف والرعب الشديدين، كنت أظن أن من في المستشفى يريدون حبسي لأنهم يريدون البقاء على المعلومات السرية التي امتلكها. كان لدي اعتقاد تام أنها مؤامرة. كنت أصرخ بطريقة هيستيرية، كنت أبكي بحرقة.
لم أكن اكترث للذهان وأنا خارج المستشفى بل كنت استمتع به لأنه يغمرني بشعور النشوة والسعادة، ولكن عندما أعيش تجربة الذهان مع من يحاولون حجزي وقمع معتقداتي وسلب أفكاري يصبح الوضع مهيناً، مدمراً، محرجاً!
خرجت بمحض ارادتي من المستشفى، لم يكن لأهلي أي قدرة على منعي ولكنهم لم يكونوا سعداء بهذه الخطوة بتاتاً، لم يكن بيدهم حيلة إلا مراقبتي عن بعد للتأكد من عدم إيذائي لنفسي.
أنا نادمة كل الندم على هذا التصرف بالذات، فهو لم يكن السبب الرئيسي في تأجيل معافاتي فحسب بل كان عبئاً ثقيلاً وضعته عليهم بمحض إرادتي.
كلما استرددت الحسرة على وجوههم والحرقة في إيماءاتهم يوجعني قلبي كثيراً. لكني لم أكن على طبيعتي، أفكاري المبعثرة هي العامل المسيطر على كل تصرفاتي.
النوبات التالية لم تعد ممتعة كالأولى. فقد بدأت النوبة الثانية بمزاولتي الفردية للكثير من الأنشطة الروحانية والترانيم في غرفتي بعيداً عن مرأى الناس، فقدت بصيرتي بالكامل، انفصلت عن الواقع تماماً، شعرت حرفيًا أن عقلي يهتز، كما لو كان عقلي مقلوباً رأساً على عقب.

سارعت بالخروج من غرفتي سقطت على الأرض، كنت مرعوبة. لم أكن أعرف ما إذا كنت قد مت، أو ما إذا كنت لا أزال على قيد الحياة، وكأنني قد دخلت في حالات مختلفة من الوعي، حالةً تلو الأخرى.

وكأنها كوابيس لا يمكنني الاستيقاظ منها. حدثت الكثير من الأشياء الغريبة، لا أستطيع استذكارها جميعاً، لكنني أعلم أنني اعتقدت أنني أموت.
وبعدها انطلقت إلى الطريق حافية القدمين، وظننت أنني أركض في الجحيم، خرجت أمي لتلحق بي  ظننت أنها روح شريرة تحاول الإمساك بي، لذلك اعتقدت عندما أمسكت بي أنها كانت تحاول قتلي.
من الصعب جداً استرجاع تلك المواقف، صعب استيعاب التساؤلات التي تأتي مع التفكير في تلك اللحظات. يبدو الأمر وكأنني أشاهد شخصاً آخر، شخصاً مختلفاً تماماً.

إنه أمر مدمر، فمجرد معرفتي أن عقلي يمكنه أن يلعب مثل هذه الحيل عليّ ويمكنه أن يجعلني أتصرف كل هذه التصرفات الفظيعة ينتابني شعور الغضب والإحباط وخيبة الأمل.  كيف يمكنني الاعتماد عليه مرة أخرى؟!
أنا سعيدة جداً الآن لأني وبعد الكثير من التغييرات في نوعيات وجرعات الأدوية توصلت أنا وطبيبي الى ما هو مناسب لي.
أنا الآن أستطيع القول وبكل ثقة بأني مستعدة لنوبة الذهان القادمة وأنني قادرة تماماً على إدارتها، أصبحت ملمة بعلامات الإنذار المبكر، وأعرف كيف أمد يدي لطلب المساعدة إذا دق ناقوس الخطر.
وأخيراً أود أن أوجه كلمة لمن يقرأ هذا المقال، أن الذهان كسائر الاضطرابات النفسية يوصمه الكثيرون بالعار، فقد يبدو الأمر لديهم وكأنه فجيعة، وقد ينتاب من يتم تشخيصه بالذهان بشعور مروع للغاية، وكأن حياته قد انتهت، ولا يمكنه أبدًا تحقيق أي شيء.
لكن أود أن أقول أن هناك الكثير من الأشخاص الذين مروا بمشاكل في صحتهم العقلية، ومن بينها الذهان، عاشوا حياة سعيدة للغاية وناجحة، وأنا خير مثال على ذلك!
لنضع في بالنا دائماً أن مع كل معضلة هناك حل ولو كان الوصول له في بعض الأحيان صعباً لكنه ليس مستحيلاً، يمكننا دائماً تخطي العوائق، أنا شديدة الإيمان أن هناك أملاً حقيقياً للجميع، بغض النظر عن المكان الذي أتينا منه، وما مررنا به.
نصيحتي أيضاً هي المبادرة لمعرفة أكبر قدر ممكن من المعلومات عن حالتك، حتى تتمكن من إدارة نفسك، حاول أن تصبح أفضل طبيب نفسي لها فأنت بالنهاية أكثر من سيلازمها ويرعاها.
وما ساعدني كثيراً في أوقات الإحباط والأسى هو الاطلاع على قصص النجاح للأشخاص الذين تعافوا من الذهان، هؤلاء الذين كانوا قد وصلوا للقاع لدرجة أنهم لم يتمكنوا من مغادرة المنزل لأشهر عديدة، فهم يذكرون لك أدق تفاصيل يومياتهم فيما يخص مصاعب الذهان وحلولهم للتغلب عليه وكيفية وصولهم لمنطقة الراحة.
أنا خلقت لنفسي واحة أمان أطلقت عليها اسم "هنـا"
كلما ضقت وتعثرت توجهت إليها.
وسؤالي لك: هل وجدت الـ "هنـا" الخاصة بك؟ أم لازلت في مغامرة البحث عنها؟